فصل: (سورة الحاقة: آية 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشريف الرضي:

ومن السور التي يذكر فيها الحاقة:

.[سورة الحاقة: آية 6]:

{وأمّا عادٌ فأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صرْصرٍ عاتِيةٍ (6)}.
قوله تعالى: {وأمّا عادٌ فأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صرْصرٍ عاتِيةٍ} [6] وهذه استعارة.
والمراد بالصّرصر: الباردة. وهو مأخوذ من الصّرّ، والعاتية: الشديدة الهبوب التي ترد بغير ترتيب، مشبّهة بالرجل العاتي، وهو المتمرد الذي لا يبالى على ما أقدم، ولا فيما ولج ووقع.

.[سورة الحاقة: الآيات 10- 11]:

{فعصوْا رسُول ربِّهِمْ فأخذهُمْ أخْذة رابِية (10) إِنّا لمّا طغى الْماءُ حملْناكُمْ فِي الْجارِيةِ (11)}.
وقوله سبحانه: {فأخذهُمْ أخْذة رابِية}[10] وهذه استعارة. والمراد بالرابية هاهنا: العالية القاهرة. من قولهم: ربا الشي ء إذا زاد. والرّبا مأخوذ من هذا. فكأن تلك الأخذة كانت قاهرة لهم، وغالبة عليهم.
وقوله سبحانه: {إِنّا لمّا طغى الْماءُ حملْناكُمْ فِي الْجارِيةِ} [11] وهذه استعارة.
والمراد بها قريب من المراد بالاستعارتين الأوليين، وهو تشبيه للماء في طموّ أمواجه، وارتفاع أثباجه بحال الرجل الطاغي، الذي علا متجبرا، وشمخ متكبرا.
وقال بعضهم: معنى طغى الماء أي كثر على خزّانه، فلم يضبطوا مقدار ما خرج منه كثرة، لأن للماء خزنة، وللرياح خزنة من الملائكة عليهم السلام، يخرجون منهما على قدر ما يراه اللّه سبحانه من مصالح العباد، ومنافع البلاد، على ما وردت به الآثار.

.[سورة الحاقة: آية 21]:

{فهُو فِي عِيشةٍ راضِيةٍ (21)}.
وقوله تعالى: {فهُو فِي عِيشةٍ راضِيةٍ} [21] وهذه استعارة. وكان الوجه أن يقال: في عيشة مرضيّة. ولكن المعنى خرج على مخرج قولهم: شعر شاعر، وليل ساهر.
إذا شعر في ذلك الشعر وسهر في ذلك الليل، فكأنهما وصفا بما يكون فيهما، لا بما يكون منهما. فبان أنّ تلك العيشة لما كانت بحيث يرضى الإنسان فيها حاله جاز أن توصف هي بالرضا. فيقال راضية. على المعنى الذي أشرنا إليه. وعلى ذلك قول أوس بن حجر:
جدلت على ليلة ساهرة ** بصحراء شرج إلى ناظره

وصف الليلة بصفة الساهر فيها، وظاهر الصفة أنها لها.
وقال بعضهم: إنما قال تعالى: {فِي عِيشةٍ راضِيةٍ} لأنها في معنى: ذات رضى، كما قيل: لابن، وتامر. أي ذو لبن، وتمر.
وكما قالوا لذى الدّرع: دارع، ولذى النّبل: نابل، ولصاحب الفرس: فارس. وإنما جاءوا به على النّسب، ولم يجيئوا به على الفعل. وعلى ذلك قول النابغة الذّبيانى:
كلينى لهمّ يا أميمة ناصب ** وليل أقاسيه بطيء الكواكب

أي: ذى نصب. قال فكأن العيشة أعطيت من النعيم حتى رضيت، فحسن أن يقال: راضية، لأنها بمنزلة الطالب للرضا، كما أنّ الشهوة بمنزلة الطالب المشتهى.

.[سورة الحاقة: الآيات 44- 45]:

{ولوْ تقول عليْنا بعْض الْأقاوِيلِ (44) لأخذْنا مِنْهُ بِالْيمِينِ (45)}.
وقوله سبحانه: {ولوْ تقول عليْنا بعْض الْأقاوِيلِ لأخذْنا مِنْهُ بِالْيمِينِ} [44، 45] وهذه استعارة على أحد التأويلات، وهو أن يكون المراد باليمين هاهنا القوة والقدرة.
فيكون المعنى: أنه لو فعل ما نكره فعله لا نتقمنا منه عن قدرة، وعاقبناه عن قوة.
وقد يجوز أن تكون اليمين هاهنا راجعة على النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون المعنى: لو فعل ذلك لسلبناه قدرته، وانتزعنا منه قوّته. ويكون ذلك كقوله سبحانه: {تنْبُتُ بِالدُّهْنِ} أي تنبت الدّهن على بعض التأويلات.
وكقول الشاعر:
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

أي نرجو الفرج. اهـ.

.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة الحاقة:
{الحاقة * ما الحاقة * وما أدراك ما الحاقة}. نحن نظن الدار الدنيا هي الواقع الذي لا ريب فيه. فهل يبقى هذا الظن بعد أن نغادرها بالموت، ونستقبل عالما آخر هو الحقيقة الباقية؟ ونسأل: هل بقى أحد على ظهر الأرض ممن عمروا هذه الدنيا؟ أم أن الموت حصد الجميع؟ إن. كل الذين جاءوا ذهبوا، وأغلبهم بوغت بالموت دون أن يستعد لما بعده! وأمام الجميع يوم آخر يلتقى فيه الأولون والآخرون، ويعرف الناس الحق كله فيما قدموا وأخروا.. إن أمما شتى كذبت رسلها، منها من عوقب ومنها من أرجئ عقابه، وسوف ينكشف أمر الجميع حتما {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة * وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة * فيومئذ وقعت الواقعة..}. لقد آن أوان الحساب الجامع والجزاء العام وميز المحسن والمسيء {فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه..} {وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه..}. إن الإيمان بالمحسوس وحده يسود العالم الآن. وهناك سباق مجنون لامتلاك المال وتحصيل اللذات، وهناك زهد عام في الصلاة والإيثار والحديث عن الله وحده. وبقايا الوحى في الأمم التي ورثته لم تتحول إلى إيمان واضح وعمل صالح، ويكاد حملة الحق يكونون صورة منفرة عنه مزهدة فيه. ومن المحزن أن تكون هدايات أولى العزم من الرسل في أيدى أناس واهنى العزم ضعاف البصر. ربما وجدت أحدهم ملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ومع ذلك يشح بمواساة فقير. ذاك الذي يقال فيه: {خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه * إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين}. ثم إن هناك جماهير غفيرة ودولا ذات بأس تتوارث إن محمدا دعى وأن رسالته كاذبة. قلت: ماذا كسب محمد من رسالته؟ الإلحاح على أن الله واحد وأن لقاءه حتم؟ الإلحاح على أن التقوى وحدها طريق النجاة؟ الإلحاح على أنه عبد لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا؟ طول الركوع والسجود وحمل السلاح لهزيمة الطغيان؟ إن محمدا أجدر الناس بالحديث عن الله، وما نعرف أحدا تحمس لتنزيهه وتقديسه مثله!! وهذا سر القسم في الآيات هنا {فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون * إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين}. ولو حدث أن محمدا افتعل هذا الوحى لكان عقابه صارما {ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين}. إن هذا القرآن سيبقى ما بقى العالم دعما للإيمان الحق، وبناء للنفوس الزاكية وبرهانا على صدق صاحبه. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة الحاقة:
أقول: لما وقع في {ن} ذكر يوم القيامة مجملا في قوله: {يوم يكشِفُ عن ساق} شرح ذلك في هذه السورة بناء على هذا اليوم، وشأنه العظيم. اهـ.

.تفسير الآيات (1- 8):

قوله تعالى: {الْحاقّةُ (1) ما الْحاقّةُ (2) وما أدْراك ما الْحاقّةُ (3) كذّبتْ ثمُودُ وعادٌ بِالْقارِعةِ (4) فأمّا ثمُودُ فأُهْلِكُوا بِالطّاغِيةِ (5) وأمّا عادٌ فأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صرْصرٍ عاتِيةٍ (6) سخّرها عليْهِمْ سبْع ليالٍ وثمانِية أيّامٍ حُسُوما فترى الْقوْم فِيها صرْعى كأنّهُمْ أعْجازُ نخْلٍ خاوِيةٍ (7) فهلْ ترى لهُمْ مِنْ باقِيةٍ (8)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
(بسم الله) الذي له الكمال كله، نزاهة وحمدا (الرحمن) الذي عم جوده بالعدل كبرا ومجدا (الرحيم) الذي خص أهل وده بالوقوف عند حدوده لينالوا بطيب جواره علوا وجدا وفوزا بالأماني وسعدا.
لما قدم سبحانه في {نون} الإنكار الشديد لأن يسوي المسيء بالمحسن، وذكر القيامة وبينها بيوم كشف الساق وزيادة المشاق، وهدد التهديد العظيم بآية الاستدراج الذي لا يدفع بعلاج، وختم بأن القرآن ذكر-أي شرف- وتذكير، ومواعظ للعالمين في شمولهم كلهم برحمته، أما من بعد إنزاله فبوعيده ووعده ووعظه وقصه وأمره ونهيه، وأما من قبل إنزاله فبالشهادة لهم وعليهم، وكان تأويل ذلك وجميع آثاره إنما يظهر ظهورا تاما يوم الجمع الأكبر، وكان ذلك اليوم أعظم مذكر للعالمين وواعظ لهم وزاجر، تنبني جميع الخيرات على تذكره وتذكر العرض على الملك الديان، والسر في إنزال القرآن هو التذكير بذلك اليوم الذي هو نظام الوجود، قال واصفا للقيامة واليوم الذي يكشف فيه عن ساق، واعظا بذكرها ومحذرا من أمرها: {الحاقة} أي الساعة التي يكذب بها هؤلاء وهي أثبت الأشياء وأجلاها فلا كاذبة لها ولا لشيء عنها، فلابد من حقوقها فهي ثابتة في نفسها، ومن إحضار الأمور فيها بحقائقها، والمجازاة عليها بالحق الذي لا مرية فيه لأحد من الخلق، فهي فاعلة بمعنى مفعول فيها، وهي فاعلة أيضا لأنها غالبة لكل خصم، من حاققته فحققته أحقه أي غالبته في الحق فغلبته فيه، فهي تحق الحق ولابد فتعلو الباطل فتدمغه وتزهقه فتحق العذاب للمجرمين والثواب للمسلمين، وكل ما فيها داثر على الثبات والبيان، لأن ذلك مقتضى الحكمة ولا يرضى لأحد من الحكام ترك رعيته بغير إنصاف بينهم على زعمه فكيف بالحكيم العليم، وقصة صاحب الحوت عليه السلام أدل دليل على القدرة عليها.
ولما كان ذلك كله أمرا رائعا للعقول، هازا للقلوب، مزعجا للنفوس، وكان ربما توقف فيه الجلف الجافي، أكد أمره وزاد في تهويله، وأطنب في تفخيمه وتبجيله، إشارة إلى أن هوله يفوت الوصف بقوله، معلما أنه مما يحق له أن يستفهم عنه سائقا له بأداة الاستفهام مرادا بها التعظيم للشأن، وأن الخبر ليس كالعيان: {ما الحاقة} فأداة الاستفهام مبتدأ أخبر عنه بالحاقة وهما خبر عن الأولى، والرابط تكرير المبتدأ بلفظه نحو زيد أي ما هو، وأكثر ما يكون ذلك إذا أريد معنى التعظيم والتهويل.
ولما كان السياق لترجمة المراد بكشف الساق، عظم التهويل بقوله: {وما أدراك} أي في الزمن الماضي، وقصره لتذهب النفس فيه كل مذهب، أي وأي شيء أعلمك بشيء من الأشياء مع تعاطيك للبحث والمداورة، ثم زاد التحذير منها بقوله على النهج الأول مستفهما والمراد به التفخيم ومزيد التعظيم: {ما الحاقة} أي إنها بحيث لا يعلم كنهها أحد ولا يدركها ولا يبلغها درايته وكيف ما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك، فلا تعلم حق العلم إلا بالعيان.
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير: لما بنيت سورة {ن والقلم} على تقريع مشركي قريش وسائر العرب وتوبيخهم وتنزيه نبي الله صلى الله عليه وسلم عن شنيع قولهم وقبيح بهتهم، وبين حسدهم وعداوتهم {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم} [القلم: 51] أتبعت بسورة الحاقة وعدا لهم وبيانا أن حالهم في سوء ذلك المرتكب قد سبق إليه غيرهم {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} [الحاقة: 4] {فهل ترى لهم من باقية} [الحاقة: 8] {ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من قرن} [الأنعام: 6] {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم} [يونس: 102]، و{كم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا} [مريم: 98] فسورة الحاقة جارية مجرى هذه الآي المعقب بها ذكر عناد مشركي العرب ليتعظ بها من رزق التوفيق {لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية}.
ولما ذكر حال من هلك من الأمم السالفة بسوء تكذيبهم وقبيح عنادهم، أتبع ذلك بذكر الوعيد الأخراوي {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} [الحاقة: 18] ثم عاد الكلام إلى ما بنيت عليه سورة {ن والقلم} من تنزيهه صلى الله عليه وسلم وتكريمه مقسما على ذلك {إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون} [الحاقة: 41، 42] وانتهى نفي ما تقوله منصوصا على نزاهته عن كل خلة منها في السورتين {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} [القلم: 2] وما الذي جئت به بقول شاعر ولا بقول كاهن بل هو تنزيل من رب العالمين، وأنه لتذكرة للمتقين وإنه لحق اليقين، فنزه ربك وقدسه من عظيم ما ارتكبوه- انتهى.
فلما بلغ التهويل حده، وكان سبب الإنكار للساعة ظن عدم القدرة عليها مطلقا أو لعدم العلم بالجزئيات، قال دالا على تمام القدرة والعلم بالكليات والجزئيات، محذرا من أنكرها بأنه قادر على تعجيل الانتقام ولكنه لإكرامه لهذه الأمة أخر عذابها إلى الآخرة إلى لمن كان منهم من الخواص فإنه يظهرهم في الدنيا ليتم نعيمهم بعد الموت بادئا بأشد القبائل تكذيبا بالبعث لكون ناقتهم أول دليل على القدرة عليه، وقالوا مع ذلك {أبشر منا واحدا نتبعه} [القمر: 24] إلى أن قالوا: {بل هو كذاب أشر} [القمر: 25] وقالوا في التكذيب بها {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت} [المؤمنون: 35، 36، 37]- الآية، فإن الامر فيهم دائر بين عاد وثمود: {كذبت ثمود} وتقديمهم أيضا من حيث أن بلادهم أقرب إلى قريش، وواعظ القرب أكبر وإهلاكهم بالصيحة وهي أشبه بصيحة النفخ في الصور المبعثر لما في القبور {وعاد} وكان الأصل أن يقال: بها، ولكنه أظهرها بوصف زادها عظما وهولا فقال: {بالقارعة} أي التي تقرع، أي تضرب ضربا قويا وتدق دقا عنيفا شديدا للأسماع وجميع العالم بانفطار السماوات وتناثر النيرات ونسف الجبال الراسيات، فلا يثبت لذلك الهول شيء.
ولما جمعهم في التكذيب، فصلهم في التعذيب لأجل ذلك التكذيب فقال: {فأما ثمود} وهم قوم صالح عليه السلام.
ولما كان الهائل لهم لتقيدهم بالمحسوسات إنما هو العذاب، لا كونه من معين، بنى للمجهول قوله: {فأهلكوا} أي بأيسر أمر من أوامرنا {بالطاغية} أي الصيحة التي جاوزت الحد في الشدة فرجفت منها الأرض والقلوب.
ولما ذكر المهلكين بالصيحة لأجل التكذيب بالقارعة تحذيرا لمن يكذب بها، أتبعه المهلكين بما هو سبب لإنفاذ الصيحة وتقويتها دلالة على تمام القدرة على كل نوع من العذاب بالاختيار فقال تعالى: {وأما عاد} وهم قوم هود عليه السلام {فأهلكوا} أي بأشق ما يكون عليهم وأيسر ما يكون في قدرتنا {بريح صرصر} أي هي في غاية ما يكون من شدة البرد والصوت كأنه كرر فيها البرد حتى صار يحرق بشدته والصوت حتى صار يصم بقوته، وقال الملوي: أصله صر وهو البرد الشديد أو الحر الشديد {عاتية} أي مجاوزة للحد من شدة عصفها وعظمة قصفها تفعل أفعال المستكبر الذي لا يبالي بشيء فلم يستطع خزانها ضبطها، ولم يملك المعذب بها ردها ولا ربطها، بل كانت تنزعهم من مكامنهم التي احتفروها ومصانعهم التي أتقنوها واختاروها فتهلكهم، قال الملوي: قال علي بن أبي طالب وابن عباس- رضى الله عنهما ـ: «لم ينزل قط ماء ولا ريح إلا بمكيال على يد ملك إلا يوم الطوفان فإن الله تعالى أذن للماء فطغى على الخزان ويوم عاد أذن للريح فعتت على خزانها» انتهى.
ولما وصفها بالعتو على الخلق والغلبة لهم بحيث كانت خارقة للعادة لم يأت مثلها قبل ولا بعد، دل على صغارها بالنسبة إلى عظمته، وأنه هو الذي أوجدها لا الطبيعة ولا غيرها، بل إنما كانت بقدرته واختياره قهرا لمن طعن في ملكه وكذب رسله فيما أخبروا به من أمر الساعة التي هي موضع الحكمة وإظهار جميع العظمة، فقال مستأنفا دلالة على ذلك: {سخرها} أي قهرها على أن سلطها، والتسخير: استعمال الشيء بالاقتدار، ودل على أنه تسخير تعذيب لا رحمة وتأديب بأداة الاستعلاء، فقال: {عليهم} وكلفها ذلك وذللها له فلم يمكنها مع عتوها إلا أن كانت طوع أمره وصنيعة عظمته وقهره.
ولما كانت هذه السورة لتحقيق الأمور، وكشف المشكل وإيضاح الخفي، حقق فيها زمن عذابهم تحقيقا لم يتقدم مثله، فذكر الأيام والليالي، وقدم الليالي لأن المصايب فيها أفظع وأقبح وأشنع لقلة المغيث والجهل بالمأخذ والخفاء في المقاصد والمنافذ، ولأن عددها مذكر في اللفظ، وتذكير اللفظ أدل على قوة المعنى ولذلك جعل المميز جمع كثرة، ولأنها سبع، والسبع مبالغ فيه وهو أجمع العدد كما يأتي تحقيقه قريبا في حملة العرش ولا يمكن أن يظن بتقديمها أن ابتداء العذاب كان فيها لأنه يلزم حينئذ أن يكون بعدد الأيام فلذلك قال: {سبع ليال} أي لا تفتر فيها الريح لحظة لأنه بولغ في شدتها مبالغة لم يكن مثلها قط ولا يكون بعدها أبدا {وثمانية أيام} كذلك حال كونها {حسوما} جمع حاسم أي بحس مانع من التصرف دائم متتابع لا فترة له، من حسم الكي- إذا تابع فيه بالمكواة، قاطع لكل خير، مستأصل له، فأتت عليهم من غير فترة أصلا في جميع الوقت فاستأصلتهم لم تبق منهم أحد حتى أن عجوزا منهم توارت في سرب فانتزعتها وأهلكتها، وبها سميت أيام العجوز، أو لأنها عجز الشتاء وهي ذات برد ورياح شديدة وهي من صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء الآخر وهو آخر الشهر، وقد لزم من زيادة عدد الأيام أن الابتداء كان بها قطعا وإلا لم تكن الليالي سبعا- فتأمل ذلك.
ولما كان الحاسم المهلك، سبب عنه قوله مصورا لحالهم الماضية: {فترى القوم} أي الذين هم في غاية القدرة على ما يحاولونه: {فيها} أي في تلك المدة من الأيام والليالي لم يتأخر أحد منهم عنها {صرعى} أي مجدلين على الأرض موتى معصورين مجهزة على كل منهم من شدة ضغطها باد عليهم الذل والصغار، جمع صريع {كأنهم أعجاز} أي أصول {نخل} قد شاخت وهرمت فهي في غاية العجز والهرم {خاوية} أي متآكلة الأجواف ساقطة، من خوي النجم- إذا سقط للغروب، ومن خوي المنزل- إذا خلا من قطانه، قالوا: كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم، فالوصف بذلك لعظم أجسامهم وتقطيع الريح لهم وقطعها لرؤوسهم وخلوهم من الحياة وتسويدها لهم.
ولما كان هذا أمرا رائعا لمن له أدنى معقول، وكان الاستفهام مما يزيد الروعة، قال مسببا عن استئصالهم ليكون الإخبار به المستلزم لغاية العلم بالجزئيات كالدعوى بدليلها: {فهل ترى} أي أيها المخاطب الخبير الناس في جميع الأقطار {لهم} أي خصوصا، وأعرق في النفي وعبر بالمصدر الملحق بالهاء مبالغة فقال: {من باقية} أي بقاء أو نفس موصوفة بالبقاء، وأنجى الله سبحانه وتعالى صالحا عليه السلام ومن آمن به من بين ثمود ولم تضرهم الطاغية وهودا عليه السلام ومن آمن به من بين عاد لم يهلك منهم أحد، فدل ذلك دلالة واضحة على أن له تعالى تمام العلم بالجزئيات كما أن له كمال الإحاطة بالكليات وعلى قدرته واختياره وحكمته، فلا يجعل المسلم أصلا كالمجرم ولا المسيء كالمحسن. اهـ.